تحتفي باكستان هذا الأسبوع بالذكرى الـ144 لميلاد الشاعر والمفكر محمد إقبال الذي ولد في سيالكوت بإقليم البنجاب يوم 9 نوفمبر 1877، وهو أول من نادى بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في شبه القارة الهندية، وكان له الفضل في قيام دولة باكستان في نهاية المطاف.
و تنظم البلاد مؤتمر إقبال الدولي بدءًا من الأسبوع الجاري بمشاركة شخصيات حكومية وثقافية من باكستان وخارجها، وعدد من أفراد عائلة الشاعر تقديراً لإسهامه في الأدب الأُردي والثقافة الإسلامية والوطنية في شبه القارة الهندية، بينما تقيم العديد من المنظمات الاجتماعية والأدبية ندوات ومعارض ومؤتمرات في ذكرى ميلاد الشاعر، رغم أن البلاد تعيش جائحة كورونا مما سيؤثر على الأنشطة والفعاليات المرتقبة.
شاعر الشرق
عرف العلامة محمد إقبال شاعرا مسلما وفيلسوفا وسياسيا، اعتبر شعره باللغتين الأردية والفارسية من بين أعظم الأشعار في العصر الحديث، وهو مشهور أيضا بإسهاماته في فلسفة الإسلام الدينية والسياسية، وقد ترجمت أشعاره إلى اللغات الإسبانية والصينية واليابانية والإنجليزية وغيرها.
طغى الشعر على حياة إقبال ووجدانه رغم عشرات المؤلفات في عدة حقول، ونزوعه السياسي ودراساته في الاقتصاد وحضوره الأكاديمي، وهو الحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونخ الألمانية، واشتغاله في المحاماة التي أحبها.
كان إقبال معاديا للاستعمار البريطاني، وقد حاول الإنجليز استمالته وإغراءه بالمناصب، فعرضوا عليه منصب نائب الملك في جنوب أفريقيا فرفضه. وقد حال اهتمام القراء بشعره دون التعرف على مؤلفاته الأخرى، وتحديدا ما يتعلق بدعوته إلى تجديد الفكر الإسلامي الذي ألف فيه كتاباً بالعنوان نفسه، وكان رائداً في ذلك.
حمل شعره نفسا فلسفيا صوفيا، ووثقت قصائده لزياراته وسفراته وانطباعاته عن أوضاع المسلمين وحلمه بوحدتهم، وغنت له أم كلثوم قصيدة “الشكوى” التي اشتهرت باسم “حديث الروح” والتي كانت لها أصداء كبيرة في البلاد العربية، ومن أبياتها:
حديث الروح للأرواح يسري … وتدركـه القلوب بلا عنـاء
هتفت به فطـار بلا جنـاح … وشق أنينه صوت الفضـاء
لقد فاضت دموع العشق مني … حديثـا كـان علوي النـداء
فحلـق في ربا الأفلاك حتى … أهـاج العـالم الأعلى بكائي
الشاعر الذي أنشأ دولة
لم يغادر إقبال النشاط السياسي في منطقة كانت تمر بالأحداث حتى وفاته، فقد انضم لحزب الرابطة الإسلامية، وحضر العديد من المؤتمرات الإسلامية، بينها مؤتمر القدس، يدافع عن حقوق وأوضاع المسلمين بالهند، وكان صاحب نظرة خاصة في طبيعة العلاقة بين المسلمين والهندوس في الهند.
وتلاحم جمهور المسلمين حول شعره في شبه القارة دفع إقبال ليكون أول من يطرح فكرة دولة مستقلة لمسلمي شبه القارة الهندية عام 1931، حيث بادر إلى دعوة محمد علي جناح مؤسس باكستان للعمل معه لتحقيق الأمل المنشود.
لقد صاحب التميز إقبال منذ دراسة الابتدائية في الهند وسرعان ما أصبح تلميذا لشاعر الأردية الكبير نواب داغ الدهلوي، الذي فتح له نافذة الشهرة على العالم في عز شبابه، حتى أصبح مقر سكنه الجامعي ملتقى للشباب، في حين راح العامة والخاصة من الأدباء يتدافعون إلى سوق الحكماء في لاهور للاستماع إلى إقبال الذي استحق بجدارة لقب “علامة”.
ومع انشغاله بالشؤون الهندية لم ينقطع عن الاهتمام بقضايا العالم العربي والإسلامي، ويقول إقبال عن نفسه “جسدي زهرة في حبة كشمير، وقلبي من حرم الحجاز وأنشودتي من شيراز”.
تعلم إقبال في كتاتيب القرية والمدارس الحكومية، وحصل على البكالوريوس ثم الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا عن دراسة له بعنوان “تطور الميتافيزيقيا في إيران”، كما درس الحقوق في كامبردج بإنجلترا، ليكتسب تنوعا وثراء في ثقافته وإتقانه لعدد من اللغات بينها الإنجليزية والعربية والأردية والفارسية.
كما أن تنوعت دراسته بين الفكر والفلسفة والاقتصاد والحقوق يشير إلى تنازع السعي للمعرفة الوجودية للدفاع عن الإسلام في مواجهة الآخر فكرياً، والانحياز للفقراء والمظلومين.
وقد كان إقبال الذي تزوج 3 مرات وله ولد وبنتان ومات فقيراً، ذكياً لماحاً وقارئاً نهماً، واسع الثقافة، بسيطاً، قلقاً، دائم السؤال والمناجاة.
توفي الشاعر الباكستاني الأشهر يوم 21 أبريل 1938 قبل قيام باكستان نفسها، تاركا ما يربو على 20 كتابا شملت مجالات الفكر والاقتصاد والشعر.
الفيلسوف الشاعر
قبل أن ينقطع للشعر ألف كتابه الأهم “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، وهو مجموعة محاضرات ألقاها إقبال بالإنجليزية (1928-1929م)، شرح فيه البواعث والأرضيات والسياقات، الذاتية والموضوعية والفكرية التي حرضته على تبني فكرة تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني، وفق الباحث السعودي زكي ميلاد.
وفي قراءته لعلاقة المسلمين مع الغرب، رأى إقبال أن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب.
وعبر عن خشيته من إقبال المسلمين على المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية، ورأى أن بإمكان العالم الإسلامي الانخراط في العالم الحديث، وإتمام التجديد بالتقريب بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الأوروبية الحديثة، اللتين انقطعت الصلة بينهما من بعد فلسفة ابن رشد.
ويحدد إقبال طبيعة مهمته الفكرية بالقول “ينبغي أن نتناول المعرفة العصرية بنزعة من الإجلال، وفي روح من الاستقلال، والبعد عن الهوى، وأن نقدر تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة، ولو أدى بنا ذلك إلى مخالفة المتقدمين، وهذا الذي أعتزم فعله”.
ناهزت كتب إقبال 20 كتاباً في الفكر والاقتصاد والشعر، ومن كتبه الشعرية أسرار خودي “أسرار معرفة الذات”، رموز بيخودي “أسرار فناء الذات”، بيام مشرق “رسالة المشرق” بالفارسية وهو رد على كتاب غوته “تحية الغرب”، الفتوحات الحجازية أو هدية الحجاز “أرمغان حجاز”.
في السنوات الأخيرة من عمره اجتمع المرض عليه، فقد ضعف بصره فاعتزل مهنة المحاماة، ولم يستطع العلاج، وكان يتلقى منحة شهرية من إحدى الجمعيات الإسلامية من أجل أطفاله الذين كانوا ما زالوا صغارًا.
عندما حضرته الوفاة، قال إقبال “ليت شعري.. هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء، وهل تعود النغمة الحجازية، فليت شعري، هل حكيم يخلفني؟”.