العلاقات البريطانية الباكستانية بين الحاجة والقلق
تسبب تمرد أمراء الحرب في الهند بعام 1857 في قيام بريطانيا بتمهيد الطريق لتشكيل “الراج البريطاني” وذلك من خلال تغيير هيكل الحكومة الهندية. غير أن عجز الشعب الهندي على تقرير مصيره بدون دعم بريطاني أدى إلى ظهور حركات الاستقلال. وهكذا، انتهى عصر الراج البريطاني رسميًا في منتصف ليلة 14 أغسطس/آب 1947، وذلك بعد ثلاثمائة عام من الحكم الاستعماري، بإنشاء دولتين مستقلتين، الهند وباكستان (والتي تنطوي على باكستان الغربية والشرقية بنغلاديش الحالية) بعدما قام سيريل راد كليف برسم حدود باكستان وانقسامها. انقسام جاء على أساس الانتماء الديني مما أدى إلى مقتل ما بين 500 ألف إلى مليوني شخص في أعمال العنف كما تم تشريد أكثر من 12 مليون شخص. بالطبع يعتقد معظم الباحثين اليوم أن تقسيم شبه القارة الهندية لم يكن نتيجة نزاع بين المسلمين والهندوس، ولم يكن مناورة سياسية على يد البريطانيين. بل لعبت عوامل مثل تصاعد التوترات الطائفية في ثلاثينيات القرن الماضي، والخيارات السياسية للنخب على المستوى القومي ومستوى الدولة، وتأثير الحرب العالمية الثانية، والانهيار الواسع النطاق للقانون والنظام بعد مذبحة كلكتا الكبرى في عام 1946، لعبت دورًا مهما في إنشائها.
ومع ذلك، فإن ما تبقى من الإرث الاستعماري البريطاني لباكستان يتجلى في قوانين جرائم الحدود في المناطق القبلية الفيدرالية، والتي تم إنشاؤها وتنفيذها منذ عهد الراج البريطاني للسيطرة على قبائل البشتون، ويبدو أن الحكومة الباكستانية استخدمتها لإدارة المناطق القبلية حتى 2018. ترك استمرار هذا الإرث الاستعماري تأثيرًا سلبيًا على عدم الاستقرار وكذلك على ثقافة البشتون والبنية التقليدية لحل النزاعات من قبل المجالس القبلية.
تواجه باكستان في يوم الناس هذا بيئة اقتصادية وسياسية مثارة للتحديات والمشاكل، إضافة إلى مشكلات في البنية التحتية، ومستويات كبيرة من العنف الإرهابي والسياسي والإجرامي، والتي تسببت، إلى جانب الحدود غير المستقرة، وتعدد القوميات، وتوفير أرضية خصبة للتطرف الإسلامي، في تكبد باكستان تكاليف في مختلف المجالات. ومنذ استقلال باكستان، كانت هناك ثلاث حروب ومواجهة نووية مع الهند، جاءت أساسًا نتيجة خلافات لم تحل بشأن “كشمير” وقمع حركة “ذوو القمصان الحمر”، والتي سيطرت على مناطق البشتون في الحدود الشمالية الغربية من باكستان.
هكذا نرى بان التحديات التي تواجهها باكستان قد جعلت بريطانيا تواجه تحديات مهمة في جانب المخاوف الأمنية الناجمة عن التطرف، والتي يمكن أن تؤدي إلى فقدان نفوذها في باكستان. ومن ناحية أخرى، تشعر بريطانيا بالقلق من أن تملأ الصين ومنافسون آخرون الفراغ الأمني الناجم عن التغيرات المفاجئة في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. وبالتالي، فإن هذا السيناريو يجبر بريطانيا على البحث عن حلفاء لزيادة اتصالها في هذا الجزء من العالم، على هذا فان باكستان وليس فقط بسبب الروابط التاريخية منذ زمن الحكم البريطاني، ولكن بسبب وجود الجالية الباكستانية الكبيرة في المملكة المتحدة وموقعها الجيوسياسي والجغرافي الاقتصادي الفريد بنوعه، تعد شريكًا استراتيجيًا مثاليًا للمملكة المتحدة في آسيا.
بالإضافة إلى ذلك، سيكون التعاون الاستراتيجي مع باكستان مؤثرًا لتعزيز المصالح البريطانية في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج، وسوف يضفي الشرعية على مراقبة موارد النفط والسيطرة عليها في الشرق الأوسط وأمن طرق العبور البري والبحري والجوي. وباستخدام الموقع الجغرافي الاستراتيجي لباكستان وإمكانية الوصول إلى بحر العرب، حاولت بريطانيا مواجهة نفوذ إيران ونشاطها في خليج عمان وتأمين طرق الشحن التي تمر عبر هذه المياه، ومازالت تواصل هذه السياسة.
غني عن القول بأنه كانت العلاقات العسكرية من أهم طرق التواجد البريطاني وتأثيره في باكستان. إذ بدأ الجيش الباكستاني، في نفس فترة انقسام شبه القارة الهندية، علاقاته بالجيش البريطاني في الخمسينيات من القرن الماضي. وفي السنوات الأخيرة، قدمت بريطانيا 57 دورة تدريبية بما في ذلك “العمليات النفسية العسكرية” و “العمليات الاستخباراتية المشتركة” للجيش الباكستاني والمنظمات الأمنية، ومنها المخابرات العسكرية الباكستانية. بالطبع، تم نشر القليل من المعلومات حول علاقات المخابرات البريطانية مع المخابرات الباكستانية.
تمتلك بريطانيا الفرصة للعب دور بارز في مستقبل المنطقة من خلال اكتساب مكانة سياسية كبيرة في باكستان وذلك من خلال الاستثمار المالي المناسب والتعاون الدبلوماسي. بموجب هذه السياسة، أعلنت المملكة المتحدة وباكستان في عام 2011 عن التزامهما بشراكة واسعة النطاق لتعزيز التنمية والأمن في كلا البلدين.
سيعمل المجلس الثقافي البريطاني، وبالتعاون مع شركاء الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات في باكستان، على تعزيز الروابط والشراكات بين الأنظمة التعليمية في البلدين لدعم الإصلاحات وتبادل الخبرات، بغية وضع إستراتيجية مشتركة لمكافحة التطرف والإرهاب.
مستقبل العلاقات
من وجهة نظر بريطانيا، وبسبب تفاعلها مع الصين وبعض القوى الإقليمية، أضعفت باكستان النفوذ السياسي للقوى الغربية، بما في ذلك بريطانيا، في منطقة جنوب آسيا، على هذا يمكن لتعزيز العلاقات الإستراتيجية مع التركيز على التعاون الثقافي والاجتماعي كونه يمثل القوة الناعمة، أكثر من التعاون العسكري والأمني -كقوة صلبة -حتى تطبق السياسات البريطانية في المنطقة. بعبارة أخرى، ان الاستثمار في القوة الناعمة، بما في ذلك نسبة الشباب في باكستان المرتفعة، واللغة الإنجليزية التي تعد هي اللغة الثانية للبلاد، والعدد الكبير من سكان الشتات الباكستاني في إنجلترا وتطوير المنظمات غير الحكومية، التي تركز على الأهداف الإنسانية، كلها عوامل ستمنح بريطانيا المجال لمتابعة إستراتيجيتها في باكستان، والمتمثلة في ضبط ومراقبة أنشطة دول المنطقة.