الفاعلون في صناعة السياسة الباكستانية ..ودور الأحزاب السياسية في صناعة القرار

0 91

تماماً كما تُظهِر الزلازل قوة البنى التحتية وضعفها للدول، لا تظهر حقيقة القوى الفاعلة المستترة والبارزة ووزنها في أي دولة إلا مع الهزّات السياسية التي تتعرض لها الدولة. ومع ما جرى ويجري في باكستان يتأكد ذلك، فثمّة طبقة صُلبة عسكرية أمنية إقطاعية بيروقراطية تُغلّفها طبقة رخوة بقشرة حداثية سياسية.

وما دام القرار في نهايته بأيدي قوى الدولة العميقة، فمن الظلم تحميل القشرة الظاهرية مسؤولية إخفاقات الدول، وهي-الدولة العميقة- المتحكمة بأذرع سياسية ومالية وخارجية ودستورية وإعلامية واجتماعية واقتصادية… إلخ.

العسكر وما يمتلكه من أدوات ونفوذ وحده من يستطيع توجيه البوصلة في باكستان، وثبت ذلك على مدى التاريخ الباكستاني سواء كان بحسم الخيار بالانضمام للأميركيين، أو بدعم المجاهدين الأفغان، والانضمام للتحالف الغربي في الحرب على القاعدة، أو حتى بحسم الحيادية في الصراع باليمن.

ولفهم كُنْه المشهد الباكستاني لابد من التمييز بين الطبقتين: الطبقة العميقة متمثلة في الجيش والاستخبارات والإقطاعية والبيروقراطية، والطبقة السطحية متمثلة في الأحزاب السياسية التي هي -في الغالب- أداة من أدوات الطبقة العميقة، وحين تشذّ عنها تدفع الثمن بالانقلاب عليها، كما حصل في مرتين سابقتين على كل من حزب الشعب وحزب الرابطة الإسلامية بين 1991- 1999.

وعلى ضوء ما ورد سابقاً، يصبح من المؤكد لنا أن الدور الذي تقوم به الأحزاب الاقطاعية هو بمثابة تبدل ظاهري يتناسب مع متطلبات المرحلة –الذي تحددها الدولة العميقة- والتوجه الذي يمثله كل حزب على حدى، فمثلاً حزب الإنصاف الذي يقوده المقصي مؤخراً عمران خان، معروف بتفضيله التقرب للصين أكثر من الأنخراط مع الغرب والولايات المتحدة حتى وأن لم يكن لذلك تأثير كبير، وعلى الجانب الآخر فهناك حزب الرابطة الإسلامية-نواز يحظى بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة وحلافائها كالسعودية.

شهدت العلاقات بين الصين وباكستان نمواً وتطوراً ملحوظاً منذ قدوم عمران خان، فقيادة حزب الانصاف كانت تعرف جيداً ما كان مطلوب منها، حيث أن أبرز قيادات الحركة قد صرحوا في عدة مناسبات أن باكستان تبنت توجهاً جيواقتصادياً على حساب التوجه الجيوسياسي أحدها كان على لسان خان نفسه، وكان لهذا التوجه نتائج إيجابية، منها انخراط باكستان بشكل جاد مع منظمة شينغاي للتعاون، ناهيك عن قروض بالمليارات لباكستان، وصولاً الى الاستثمارات الواسعة التي قامت بها الصين في باكستان كما شهدت هذه المرحلة انتعاش لمشروع الحزام والطريق الذي كان يجري على قدم وساق حينها.

ومع تطور العلاقات الصينية الباكستانية والتي تأتي بالتأكيد على حساب العلاقات مع الولايات المتحدة، والتغيّر الكبير الذي طرأ على المشهد الدولي من احتدام التنافس بين الصين والولايات المتحدة، الذي ذُخّر باتفاق أمني ثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا -اوكوس-بعد غياب الدور الأوروبي–حلف شمال الأطلسي- المعهود، وما تبعه من الحملة الروسية على أوكرانيا، لم تعد اللعبة التي كانت باكستان تلعبها بالمشي على حبل مشدود بين الويات المتحدة والصين مجدية، حيث اتجه العالم الى العسكرة، الأمر الذي دفع باكستان للتفضيل بين اثنتين مرحلياً مع الحفاظ على طريق العودة مع الصين.

وهنا ينتهي دور عمران خان، حيث تفاجأ الجميع بعد عزله من منصب رئاسة الوزراء بعد ما كان يبدو للوهلة الاولى أنه يمسك جيداً بزمام الأمور السياسية في باكستان، واتجهت البلاد بعدها نحو تبديل الموجة مرة أخرى و تركيب شهباز شريف الأخ الأصغر لنواز شريف مؤسس حزب الرابطة الإسلامية بمنصب رئيس الوزراء خلفاً لخان، الأمر الذي دفع الأخير الى التصريح بأن المؤسسة العسكرية و القوى الخارجية قد تآمرت ضده لاسقاطه.

وسرعان ما استجاب شهباز شريف للموجة، حيث قام بأول زيارة خارجية له الى السعودية، وبعدها اتجه نحو استجداء المساعدات لضحايا الفيضانات التي ضربت البلاد لدى الأمم المتحدة، والذي تنج عنه تعهدات بنحو 9 مليارات دولار لباكستان، واعاد احياء المحادثات مع صندوق النقد الدولي لاستكمال صرف القرض المعلق منذ ديسمبر 2022 والبالغ 7.5 مليار دولار بعد التمديد.

ومع دنونا من موعد الانتخابات العامة المقرر في اغسطس من هذا العام، تراهن شريحة كبيرة من الشعب الباكستاني على عودة عمران خان الى السلطة مرة أخرى، لكن لا يوجد لهذا السيناريو مرجحات كثيرة، لا تبعاً للتوجه الذي تتبناه باكستان في الوقت الراهن ولا على مستوى مقبوليته لدى المؤسسة العسكرية، خاصة بعد الازعاجات الذي سببها خان بتصريحاته ضد قياديي الجيش ومحاولات الالتفاف عليها.

وبالحديث عن العملية الديمقراطية والقاعدة الجماهيرية التي يمتلكها عمران خان وما تمتلكه من قدرة على صنع القرار وتأثير على الشهد السياسي، فنقول أنه كما تمكنت المؤسسة العسكرية من إدارة البلاد منذ رحيل مؤسس الدولة محمد علي جناح الى حد اللحظة، وكما قامت بعزل عمران خان بأوج فتراته تستطيع ان تبقي شهباز شريف رئيساً للوزراء أعواماً قادمة، حيث أن الحديث عن تأجيل الأنتخابات بسبب سوء الأوضاع الأمنية في بالبلاد بدء يلامس آذان المراقبين.

 

في الختام.. نقول أن الدولة الوطنية لم تترسخ في باكستان؛ بسبب وفاة المؤسسين الأوائل لها قبل أن يستكملوا بناء أسس الدولة التي حلموا بها، ولسيطرة القوى العسكرية والأمنية عليها، والمقصود تحديداً الجيش والأجهزة الملحقة به. وهذه الأخيرة هي الجزء الأهم في طبقة الدولة العميقة التي من عناصرها أيضاً “الإقطاع السياسي” الذي يهيمن على الأصوات زمن الانتخابات معتمداً على قوته الاجتماعية، أما الطبقة الأخرى في المشهد السياسي الباكستاني فهي “الدولة السطحية الظاهرة” المتمثلة في الأحزاب السياسية التي لا تخرج كثيراً عن سيطرة “الدولة العميقة”، وأما الحديث عن صعود أحد اللاعبين السياسيين وسقوط آخر مرتبط ارتباطاً وثيقاً برؤية الدولة العميقة للمرحلة المقبلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.